الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأنشدوا شاهدًا على أنَّ الوَلَدَ والوُلْد مترادِفان الآخر: وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر {ووِلْدا} بكسر الواو، وهي لغةٌ في الوَلَد، ولا يَبْعُدُ أَنْ يكون هذا من باب الذَّبْح والرَّعْي، فيكون وِلْدٌ بمعنى مَوْلود، وكذلك في الذي بفتحتين نحو: القَبَض بمعنى المَقْبوض.قوله: {أَطَّلَعَ}: هذه همزةُ استفهامٍ سَقَطَ من أجلها همزةُ الوصل. وقد قُرِئ بسقوطِها دَرْجًا وكَسْرِها ابتداءً على أنَّ همزةَ الاستفهام قد حُذِفَتْ لدلالةِ {أم} عليها كقوله: واطَّلع مِنْ قولِهم: اطَّلَعَ فلانٌ الجبلَ، أي: ارتقى أَعْلاه. قال جرير: ف {الغيبَ}، مفعول به، لا على إسقاط حرف الجر، أي: على الغيبِ، كما زعمه بعضُهم.{كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)}.قوله: {كَلاَّ}: للنحويين في هذه اللفظةِ ستةُ مذاهبَ. أحدها:- وهو مذهبُ جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس- أنها حرفُ رَدْعٍ وزَجْر، وهذا معنىً لائقٌ بها حيث وَقَعَتْ في القرآن، وما أحسنَ ما جاءَتْ في هذه الآيةِ حيث زَجَرَتْ وَرَدَعَتْ ذلك القائلَ/. والثاني:- وهو مذهبُ النَّضْر بن شميل أنها حرفُ تصديقٍ بمعنى نعم، فتكون جوابًا، ولابد حينئذٍ مِنْ أَنْ يتقدَّمَها شيءٌ لفظًا أو تقديرًا. وقد تُسْتعمل في القسم. والثالث:- وهو مذهب الكسائي وأبي بكر بن الأنباري ونصير بن يوسف وابن واصل- أنها بمعنى حقًا. والرابع- وهو مذهبُ أبي عبد الله محمد بن الباهلي- أنها رَدٌّ لما قبلها وهذا قريبٌ من معنى الرَّدْع. الخامس: أنها صلةٌ في الكلام بمعنى أي كذا قيل. وفيه نظرٌ فإنَّ أي حرفُ جوابٍ ولكنه مختصٌّ بالقسم. السادس: أنها حرفُ استفتاحٍ وهو قولُ أبي حاتم. ولتقريرِ هذه المواضعِ موضوعٌ هو أليقُ بها قد حققتُها بحمدِ الله تعالى فيه.وقد قُرِئ هنا بالفتح والتنوين في {كَلاَّ} هذه، وتُرْوى عن أبي نُهَيْك. وسيأتي لك أن الزمخشريَّ يحكي هذه القراءةَ ويَعْزِيْها لابن نُهَيْك في قوله: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ} [مريم: 82] ويحكي أيضًا قراءةً بضم الكاف والتنوين، ويَعْزِيْها لابن نهيك أيضًا. فأمَّا قوله: (ابن نهيك) فليس لهم ابنُ نهيك، إنما لهم ابو نُهَيْك بالكُنْية.وفي قراءةِ الفتحِ والتنوينِ أربعةُ اوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ مِنْ لفظها تقديرُه: كَلُّوا كَلًا، أي: أَعْيَوْا عن الحق إعْياءً، أو كَلُّوا عن عبادةِ الله لتهاونِهم بها، من قولِ العرب: (كَلَّ السيفُ) إذا نَبا عن الضَّرْب، وكَلَّ زيد، أي: تَعِبَ. وقيل: المعنى: كَلُّوا في دَعْواهم وانقطعوا. والثاني: أنَّه مفعولٌ به بفعلٍ مقدرٍ من معنى الكلام تقديره: حَمَلُوا كَلاَّ، والكَلُّ أيضًا: الثَّقْل. تقول: فلان كَلٌّ على الناس، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ} [النحل: 76] والثالث: أنَّ التنوينَ بدلٌ مِنْ ألف {كَلاَّ} وهي التي يُراد بها الرَّدْعُ والزَّجْر، فيكونُ صَرْفًا أيضًا.قال الزمخشري: ولقائلٍ أَنْ يقول: إنْ صَحَّتْ هذه الروايةُ فهي {كَلاَّ} التي للردع، قَلَبَ الواقفُ عليها ألفَها نونًا كما في قوله: {قَوَارِيرَاْ} [الإِنسان: 15]. قال الشيخ: وهذا ليس بجيد لأنه قال: (التي للرَّدْع) والتي للرَّدْعِ حرفٌ ولا وجهَ لقَلْبِ ألفِها نونًا، وتشبيهُه ب {قواريرًا} ليس بجيدٍ لأن {قواريرًا} اسمٌ رُجِعَ به إلى أصلِه، فالتنوينُ ليس بدلًا مِنْ ألف بل هو تنوينُ الصَّرْف، وهذا الجمعُ مختلفٌ فيه: أيتحتَّم مَنْعُ صَرْفِه أم يجوز؟ قولان ومنقول أيضًا أنَّ لغةَ بعضِ العرب يصرفون ما لا يَنْصَرِفُ فهذا القولُ: إمَّا على قولِ مَنْ لا يَرَى بالتحتُّم، أو على تلك اللغة.والرابع: أنه نعتٌ ل {آلهة} قاله ابن عطية. وفيه نظرٌ، إذ ليس المعنى على ذلك. وقد يظهر له وجهٌ: أن يكونَ قد وَصَفَ الآلهة بالكَلِّ الذي هو المصدرُ بمعنى الإِعياءُ والعَجْز، كأنه قيل: آلهةً كالَّيْنَ، أي: عاجِزين منقطعين، ولمَّا وَصَفهم بالمصدر وَحَّده.{كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}.وروى ابن عطية والدانيُّ وغيرُه عن أبي نهيك أنه قرأ {كُلاَّ} بضم الكافِ والتنوين. وفيها تأويلان، أحدهما: أن ينتصِبَ على الحالِ، أي: سيكفرون جميعًا. كذا قَدَّره أبو البقاء واستبعدَه. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ، أي: يَرْفُضون أو يَجْحَدون أو يُتْرَكُون كُلًا، قاله ابن عطية.وحكى ابن جرير أنَّ أبا نهيك قرأ {كُلٌّ} بضم الكاف ورفع اللام منونةً على أنَّه مبتدأ، والجملةُ الفعليةُ بعد خبرُه. وظاهرُ عبارةِ هؤلاء أنه لم يُقرأ بذلك إلا في {كُلاَّ} الثانية.وقرأ عليٌّ بن أبي طالب {ونُمِدُّ} مِنْ أمَدَّ. وقد تقدَّم القولُ في مَدَّه وأمدَّه:قوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] يجوز في {ما} وجهان؛ أحدهما: أَنْ تكونَ مفعولًا بها. والضميرُ في {نَرِثُه} منصوبٌ على إسقاط الخافضِ تقديرُه: ونَرِثُ منه ما يقولُه. الثاني: أن تكونَ بدلًا من الضمير في {نَرِثُه} بدلَ الاشتمال. وقدَّر بعضُهم مضافًا قبل الموصولِ، أي: نَرِثُه معنى ما يقول، أو مُسَمَّى ما يقول، وهو المال والولد؛ لأنَّ نفس القول لا يُورَّث.و{فَرْدًا}: حال: إمَّا مقدَّرةٌ نحو: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] أو مقارنةِ، وذلك مبنيٌّ على اختلافٍ في معنى الآية مذكور في الكشاف.والضمير في {سَيَكْفُرُونَ} يجوز أن يعودَ على الآلهةِ لأنه أقربُ مذكورٍ، ولأنَّ الضميرَ في {يكونون} أيضًا عائدٌ عليهم فقط. ومثلُه: {وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَاءَهُمْ} [النحل: 86] ثم قال: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}. وقيل: يعود على المشركين. ومثلُه قولُه: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]. إلا أنَّ فيه عَدَمَ توافقِ الضمائرِ إذ الضميرُ في {يكونون} عائدٌ على الآلهة، و{بعبادتهم} مصدرٌ مضافٌ إلى فاعِلِه إنْ عاد الضميرُ في (عبادتهم) على المشركين العابدين، وإلى المفعولِ إنْ عاد إلى الآلهة.وقوله: {ضِدًَّا} إنما وَحَّده، وإن كان خبرًا عن جَمْع، لأحدِ وجهين: إمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ، والمصادرُ مُوَحَّدةٌ مُذَكَّرَةٌ، وإمَّا لأنه مفردٌ في معنى الجمع. قال الزمخشري: والضِّدُّ: العَوْنُ، وُحِّدَ توحيدَ «وهم يَدٌ على مَنْ سواهم» لاتفاق كلمتِهم، وأنَّهم كشيءٍ واحدٍ لفَرْطِ تَضَامَّهم وتوافُقِهم والضِّدُّ: العَوْن والمُعاوَنَة. ويقال: مِنْ أضدادكم، أي: أَعْوانكم. قيل: وسُمِّي العَوْنُ ضِدًَّا لأنه يُضادُّ مَنْ يُعاديك ويُنافيه بإعانتِك له عليه. وفي التفسير: أنَّ الضدَّ هنا الأعداءُ. وقيل: القِرْن. وقيل: البلاءُ وهذه تناسِبُ معنى الآية.{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)}.قوله: {أَزًّا}: مصدر مؤكِّدٌ والأَزُّ والأَزيز والهَزُّ والاستفزاز. قال الزمخشري: (أَخَواتٌ، وهو التَّهِييجُ وشِدَّةُ الإِزعاج). والأزُّ أيضًا: شِدَّة الصوتِ، ومنه (أَزَّ المِرْجَلُ أَزًَّا) وأَزِيْزًا: أي: غلا واشتد غَلَيانُه حتى سُمع له صوتٌ. وفي الحديث: «فكان له أَزِيز»، أي: للجِذْع حين فارقه النبيُّ صلى الله عليه وسلم. اهـ.
|